فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما القيد الثاني:
وهو أن خصوص كونه خالقًا لنا من نفس واحدة يوجب علينا الطاعة والاحتراز عن المعصية، فبيانه من وجوه:
الأول: أن خلق جميع الأشخاص الإنسانية من الإنسان الواحد أدل على كمال القدرة، من حيث أنه لو كان الأمر بالطبيعة والخاصية لكان المتولد من الإنسان الواحد، لم يكن إلا أشياء متشاكلة في الصفة متشابهة في الخلقة والطبيعة، فلما رأينا في أشخاص الناس الأبيض والأسود والأحمر والأسمر والحسن والقبيح والطويل والقصير، دل ذلك على أن مدبرها وخالقها فاعل مختار، لا طبيعة مؤثرة، ولا علة موجبة، ولما دلت هذه الدقيقة على أن مدبر العالم فاعل مختار قادر على كل الممكنات عالم بكل المعلومات، فحينئذ يجب الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه، فكان ارتباط قوله: {اتقوا رَبَّكُمُ} بقوله: {خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} في غاية الحسن والانتظام.
والوجه الثاني: وهو أنه تعالى لما ذكر الأمر بالتقوى ذكر غقبيه الأمر بالاحسان إلى اليتامى والنساء والضعفاء، وكون الخلق بأسرهم مخلوقين من نفس واحدة له أثر في هذا المعنى، وذلك لأن الأقارب لابد وأن يكون بينهم نوع مواصلة ومخالطة توجب مزيد المحبة، ولذلك إن الإنسان يفرح بمدح أقاربه وأسلافه، ويحزن بذمهم والطعن فيهم، وقال عليه الصلاة والسلام: «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» وإذا كان الأمر كذلك، فالفائدة في ذكر هذا المعنى أن يصير ذلك سببًا لزيادة شفقة الخلق بعضهم على البعض.
الوجه الثالث: أن الناس إذا عرفوا كون الكل من شخص واحد تركوا المفاخرة والتكبر وأظهروا التواضع وحسن الخلق.
الوجه الرابع: أن هذا يدل على المعاد، لأنه تعالى لما كان قادرا على أن يخرج من صلب شخص واحد أشخاصا مختلفين، وأن يخلق من قطرة من النطفة شخصا عجيب التركيب لطيف الصورة، فكيف يستبعد إحياء الأموات وبعثهم ونشورهم، فتكون الآية دالة على المعاد من هذا الوجه {لِيَجْزِىَ الذين أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} [النجم: 31].
الوجه الخامس: قال الأصم: الفائدة فيه: أن العقل لا دليل فيه على أن الخلق يجب أن يكونوا مخلوقين من نفس واحدة، بل ذلك إنما يعرف بالدلائل السمعية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أميًا ما قرأ كتابا ولا تتلمذ لأستاذ، فلما أخبر عن هذا المعنى كان إخبارا عن الغيب فكان معجزا، فالحاصل أن قوله: {خَلَقَكُمْ} دليل على معرفة التوحيد، وقوله: {مّن نَّفْسٍ واحدة} دليل على معرفة النبوة. اهـ.
قال الفخر:
أجمع المسلمون على أن المراد بالنفس الواحدة هاهنا هو آدم عليه السلام، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس، ونظيره قوله تعالى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 74] وقال الشاعر:
أبوك خليفة ولدته أخرى ** فأنت خليفة ذاك الكمال

قالوا فهذا التأنيث على لفظ الخليفة. اهـ.
قال الفخر:
المراد من هذا الزوج هو حواء، وفي كون حواء مخلوقة من آدم قولان:
الأول: وهو الذي عليه الأكثرون أنه لما خلق الله آدم ألقى عليه النوم، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى، فلما استيقط رآها ومال اليها وألفها، لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه، واحتجوا عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها».
والقول الثاني: وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني: أن المراد من قوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي من جنسها وهو كقوله تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72] وكقوله: {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مّنْ أَنفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] وقوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] قال القاضي: والقول الأول أقوى، لكي يصح قوله: {خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين، لا من نفس واحدة، ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة من لابتداء الغاية، فلما كان ابتداء التخليق والايجاد وقع بآدم عليه السلام صح أن يقال: خلقكم من نفس واحدة، وأيضا فلما ثبت أنه تعالى قادر على خلق آدم من التراب كان قادرا أيضا على خلق حواء من التراب، وإذا كان الأمر كذلك، فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وهو عطف على {خَلَقَكُمْ} داخل معه في حيز الصلة، وأعيد الفعل لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت لأن الأول: بطريق التفريع من الأصل، والثاني: بطريق الإنشاء من المادة فإن المراد من الزوج حواء وهي قد خلقت من ضلع آدم عليه السلام الأيسر كما روي ذلك عن ابن عمر وغيره، وروى الشيخان «استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن خلقن من ضلع، وإنّ أعوجَ شيء من الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج» وأنكر أبو مسلم خلقها من الضلع لأنه سبحانه قادر على خلقها من التراب فأي فائدة في خلقها من ذلك، وزعم أن معنى {مِنْهَا} من جنسها والآية على حد قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72] ووافقه على ذلك بعضهم مدعيًا أن القول بما ذكر يجر إلى القول بأن آدم عليه السلام كان ينكح بعضه بعضًا، وفيه من الاستهجان ما لا يخفى، وزعم بعض أن حواء كانت حورية خلقت مما خلق منه الحور بعد أن أسكن آدم الجنة وكلا القولين باطل، أما الثاني: فلأنه ليس في الآيات ولا الأحاديث ما يتوهم منه الإشارة إليه أصلًا فضلًا عن التصريح به، ومع هذا يقال عليه: إن الحور خلقن من زعفران الجنة كما ورد في بعض الآثار فإن كانت حواء مخلوقة مما خلقن منه كما هو نص كلام الزاعم فبينها وبين آدم عليه السلام المخلوق من تراب الدنيا بُعدٌ كلّي يكاد يكون افتراقًا في الجنسية التي ربما توهمها الآية، ويستدعي بعد وقوع التناسل بينهما في هذه النشأة وإن كانت مخلوقة مما خلق منه آدم فهو مع كونه خلاف نص كلامه يردّ عليه إن هذا قول بما قاله أبو مسلم وإلا يكنه فهو قريب منه، وأما الأول: فلأنه لو كان الأمر كما ذكر فيه لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة وهو خلاف النص، وأيضًا هو خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يردّ على الثاني أيضًا.
والقول بأن أي فائدة في خلقها من ضلع والله تعالى قادر على أن يخلقها من تراب؟ يقال عليه: إن فائدة ذلك سوى الحكمة التي خفيت عنا إظهار أنه سبحانه قادر على أن يخلق حيًا من حي لا على سبيل التوالد كما أنه قادر على أن يخلق حيًا من جماد كذلك ولو كانت القدرة على الخلق من التراب مانعة عن الخلق من غيره لعدم الفائدة لخلق الجميع من التراب بلا واسطة لأنه سبحانه كما أنه قادر على خلق آدم من التراب هو قادر على خلق سائر أفراد الإنسان منه أيضًا، فما هو جوابكم عن خلق الناس بعضهم من بعض مع القدرة على خلقهم كخلق آدم عليه السلام فهو جوابنا عن خلق حواء من آدم مع القدرة على خلقها من تراب والقول: بأن ذلك يجرّ إلى ما فيه استهجان لا يخفى ما فيه.
لأن هذا التشخص الخاص الحاصل لذلك الجزء بحيث لم يبق من تشخصه الأصلي شيء ظاهر يدفع الاستهجان الذي لا مقتضي له إلا الوهم الخالص لاسيما والحكمة تقتضي ذلك التناكح الكذائي.
فقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن حواء لما انفصلت من آدم عمر موضعها منه بالشهوة النكاحية التي بها وقع الغشيان لظهور التوالد والتناسل وكان الهواء الخارج الذي عمر موضعه جسم حواء عند خروجها إذ لا خلاء في العالم فطلب ذلك الجزء الهوائي موضعه الذي أخذته حواء بشخصيتها فحرك آدم لطلب موضعه فوجده معمورًا بحواء، فوقع عليها فلما تغشاها حملت منه فجاءت بالذرية فبقي بعد ذلك سنة جارية في الحيوان من بني آدم وغيره بالطبع، لكن الإنسان هو الكلمة الجامعة ونسخة العالم فكل ما في العالم جزء منه، وليس الإنسان بجزء لواحد من العالم وكان سبب الفصل وإيجاد هذا المنفصل الأول طلب الأنس بالمشاكل في الجنس الذي هو النوع الأخص، وليكون في عالم الأجسام بهذا الالتحام الطبيعي للإنسان الكامل بالصورة التي أرادها الله تعالى ما يشبه القلم الأعلى واللوح المحفوظ الذي يعبر عنه بالعقل الأول والنفس الكلية انتهى.
ويفهم من كلامهم أن هذا الخلق لم يقع هكذا إلا بين هذين الزوجين دون سائر أزواج الحيوانات ولم أظفر في ذلك بما يشفي الغليل، نعم أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن زوج إبليس عليهما اللعنة خلقت من خلفه الأيسر؛ والخلف كما في [الصحاح] أقصر أضلاع الجنب، وبذلك فسره الضحاك في هذا المقام، وإنما أخر بيان خلق الزوج عن بيان خلق المخاطبين لما أن تذكير خلقهم أدخل في تحقيق ماهو المقصود من حملهم على امتثال الأمر من تذكير خلقها، وقدم الجار للاعتناء ببيان مبدئية آدم عليه السلام لها مع ما في التقديم من التشويق إلى المؤخر، واختير عنوان الزوجية تمهيدًا لما بعده من التناسل.
وذهب بعض المحققين إلى جواز عطف هذه الجملة على مقدر ينبئ عنه السوق لأن تفريع الفروع من أصل واحد يستدعي إنشاء ذلك الأصل لا محالة، كأنه قيل: خلقكم من نفس واحدة خلقها أولًا وخلق منها زوجها إلخ، وهذا المقدر إما استئناف مسوق لتقرير وحدة المبدأ، وبيان كيفية خلقهم منه بتفصيل ما أجمل أولًا، وإما صفة لنفس مفيدة لذلك، وأوجب بعضهم هذا التقدير على تقدير جعل الخطاب فيما تقدم عامًا في الجنس، ولعل ذلك لأنه لولا التقدير حينئذ لكان هذا مع قوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا} أي نشر وفرق من تلك النفس وزوجها على وجه التناسل والتوالد {رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء} تكرارًا لقوله سبحانه: {خَلَقَكُمْ} لأن مؤداهما واحد وليس على سبيل بيان الأول لأنه معطوف عليه على عدم التقدير ولأوهم أن الرجال والنساء غير المخلوقين من نفس واحدة، وأنهم منفردون بالخلق منها ومن زوجها، والناس إنما خلقوا من نفس واحدة من غير مدخل للزوج، ولا يلزم ذلك على العطف؛ وجعل المخاطب بخلقكم من بعث إليهم عليه الصلاة والسلام إذ يكون {وبث منهما} إلخ واقعًا على من عدا المبعوث إليهم من الأمم الفائتة للحصر، والتوهم في غاية البعد وكذا لا يلزم على تقدير حذف المعطوف عليه وجعل الخطاب عامًا لأن ذلك المحذوف وما عطف عليه يكونان بيانًا لكيفية الخلق من تلك النفس، ومن الناس من ادعى أنه لا مانع من جعل الخطاب عامًا من غير حاجة إلى تقدير معطوف عليه معه، وإلى ذلك ذهب صاحب [التقريب]، والمحذور الذي يذكرونه ليس بمتوجه إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس واحدة خلق زوجها منه ولاخلق الرجال والنساء من الأصلين جميعًا.
والمعطوف متكفل ببيان ذلك، وقد ذكر غير واحد أن اللازم في العطف تغاير المعطوفات ولو من وجه وهو هنا محقق بلا ريب كما لا يخفى. اهـ.

.قال الفخر:

قال ابن عباس: إنما سمي آدم بهذا الاسم لأنه تعالى خلقه من أديم الأرض كلها أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها؛ فلذلك كان في ولده الأحمر والأسود والطيب والخبيث والمرأة إنما سميت بحواء لأنها خلقت من ضلع من أضلاع آدم فكانت مخلوقة من شيء حي، فلا جرم سميت بحواء. اهـ.
قال الفخر:
احتج جمع من الطبائعيين بهذه الآية فقالوا: قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} يدل على أن الخلق كلهم مخلوقون من النفس الواحدة، وقوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يدل على أن زوجها مخلوقة منها، ثم قال في صفة آدم: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] فدل على أن آدم مخلوق من التراب، ثم قال في حق الخلائق: {مِنْهَا خلقناكم} [طه: 55] وهذه الآيات كلها دالة على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة يصير الشيء مخلوقا منها، وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال.